الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

الاتجار بصحة البشر


الاتجار بصحة البشر

كنت دائما متشككا في موضوع إنفلونزا الخنازير، ليس إنكارا لوجود الفيروس نفسه، وإنما لحالة الهياج التي رافقته في ما يخص استيراد المصل المضاد لهذه الإنفلونزا وشحنه للعالم الثالث بكميات كبيرة.
وكنت متأكدا، من أن الإعلام سوف يهلل ثانية بعودة الفيروس أو عودة الحديث عنه، باللهفة السابقة نفسها وحالة السعار الأولى ذاتها. السبب في يقيني هذا، وباختصار شديد، أنه جمعتني جلسات مختلفة مع من تورطوا في تجارة مصل إنفلونزا الخنازير، حيث شحنوا إلى العالم الثالث كميات كان من المفترض أن تدر عليهم مليارات الدولارات. ولكن بعد أن وصلت البضاعة إلى العواصم الكبرى في العالم الثالث، والعربي منه تحديدا، في شراكة بين أطباء يقيمون في الغرب ومتنفذين من وزارات الصحة المختلفة وبعض السياسيين، من أولي الأمر طبعا، كان الحديث قد انتهى عن إنفلونزا الخنازير في الغرب. وبذا يكونون قد تورطوا في ما قيمته أكثر من مليار دولار من البضاعة المطلوب بيعها، ولكن السوق ماتت في أيديهم، وشربوا مقلبا عظيما. ومع ذلك لم يستسلم هؤلاء، بل قرروا فيما بينهم استعادة الفيروس مرة أخرى حتى تباع البضاعة بالسعر نفسه، ولكن من دون تكاليف الشحن، هذا المرة، لأن البضاعة في مخازننا.

لم أعرف تفاصيل هذه القصة إلا منذ ستة أشهر مضت، عندما جمعتني الصدفة البحتة مع أطباء وصيادلة يتاجرون في مصل إنفلونزا الخنازير. وكان بعض من تورطوا في هذه البضاعة قد خسروا ملايين الدولارات ثمنا لأمصال أدخلوها لبعض الدول بكميات كبيرة، وبقيت الأمصال في المخازن عندما انتهت هوجة إنفلونزا الخنازير. فرأيتهم يضربون أخماسا بأسداس، ويطلبون النصح والمشورة لاسترداد ولو نصف ما دفعوه من مبالغ، فجأة أشار إليهم أحد الجالسين الناصحين بأن المسألة ليست بالصعوبة التي يتصورونها، «ولا داعي للاكتئاب فكل ما تحتاجونه، (هكذا قال المستشار)، هو حملة صحافية لن تكلفكم أكثر من مليون دولار أو مليونين، يكتب فيها الصحافيون عن عودة الفيروس بأشكال مختلفة، وتقرير أو اثنين عن حالتي وفاة أو ثلاث في الدول المستهدفة نتيجة الفيروس. وبالطبع أي حد يموت لا بد أنه يعطس أو يكون عنده رشح أو (نيمونيا).. وما أكثر هؤلاء في العالم الثالث، حيث يمكن فبركة تقارير طبية عن حالات الوفاة، ونكتب بعدها أن هؤلاء هم الضحايا الجدد للفيروس المتطور لإنفلونزا الخنازير»، وأكمل الناصح الخبير: «ولن تحتاجوا أن تبيعوا هذه المرة للأفراد. فقط صفقة أو صفقتان مع حكومة أو اثنتين في الشرق الأوسط، توزع خلالها الأمصال على المدارس، وكان الله يحب المحسنين».

هل أخذ تجار الأدوية والأمصال بنصيحة هذا الرجل ذي الضمير المتجمد؟ ما أعلمه علم اليقين، أنه لم يمض إلا ستة أشهر على هذه الجلسة، وها هو الحديث عن إنفلونزا الخنازير يعود مرة أخرى. فهل نحن ضحايا هذه الحملة الإعلامية مدفوعة الأجر لبيع أمصال كانت في طريقها إلى الإتلاف، لأن صلاحيتها تقترب من النهاية؟ وهل هذه الحملة الإعلامية الجديدة واسعة الانتشار لإنفلونزا الخنازير تهدف لإنقاذ حياة البشر، أم أنها لإنقاذ صفقات سعرها أكثر من مليار دولار؟

أنا لست طبيبا ولا اختصاصي أدوية وأمصال، ومعلوماتي الطبية لا ترقى إلى مستوى كتابة مقال رأي في شأن طبي، كما أنني لست ممن يروجون لنظرية المؤامرة في أي شيء أو ممن يقبلون بها. ولكنني أجدني مدفوعا أمام الرأي العام على أن أطرح فرضيتي، بناء على ما رأيته وسمعته ودعمته الوقائع. هذه مهمتي كباحث أكاديمي في طرح الفرضيات من أجل الإثبات أو النفي. ومن بعدها تبدأ مهمة الصحافة الاستقصائية، في العالم العربي تحديدا، للبحث عن الحقيقة والغش في موضوع مصل إنفلونزا الخنازير، وإن كان يستخدم فيه تجار من عديمي الضمير خوف الناس من الفيروس من أجل جمع المال من الغلابة والفقراء. أتمنى من الصحافيين الجادين، وكذلك من الصحف الجادة في عالمنا العربي أن تقوم بحملة صحافية استقصائية مضادة تبحث في الأمر، حتى لو كانت نتيجتها نفي الفرضية التي بنيت عليها هنا، كي تثبت أو تنفي موضوع الاتجار بصحة البشر، الذي أصبح وباء في عالمنا العربي، على وجه الخصوص. لدينا جوائز في الصحافة العربية تمنح لكل من هب ودب، وأحيانا تمنح لأتفه المواضيع، فيا ليتها تقدم لموضوع يستحق، مثل موضوع إنفلونزا الخنازير وأصل الحكاية، اللهم إلا إذا كان موزعو الجوائز شركاء في تجارة الأدوية والأمصال في منطقتنا.

هناك سوابق كثيرة في العالم العربي لبيع أدوية فاسدة ومنتهية الصلاحية، فالفساد مترابط ومتداخل بين السياسي والاجتماعي ليصل أحيانا إلى دواخل الأفراد، ويكون فسادا في الضمائر، يجعل الناس يبيعون السم لبعضهم البعض من أجل قروش معدودات. الطب بالذات في بلداننا أصبح نوعا من التجارة، تأخذ المريض إلى المشفى فيطلبون تحاليل ليست من صلب المرض، ويعطونه جرعات أدوية قد تعقد الأمور، ليبقى في المشفى الخاص ويعالج من التبعات أو الآثار الجانبية للأدوية التي أعطوه إياها. أصبحت عيادات الأطباء في بعض البلدان العربية ليست للتداوي، وإنما للتجارة ونهب المرضى المساكين.

أكتب هذا المقال، وأنا أعاني من رشح شديد في الأنف، ولكنني شخصيا غير قلق هذه المرة من أن ما أعانيه هو إنفلونزا الخنازير. ولا يعنيني أن أقرأ كثيرا عن مفعول المصل المضاد، أو أن أسعى للتزود به.

في النهاية نحتاج في عالمنا العربي إلى مؤسسات تتحكم في مسألة الأدوية وانتشارها في السوق، على غرار منظمة الصحة الأميركية (إف دي إيه)، التي لا ينزل إلى السوق أي دواء إلا بتصريح منها، أما الأدوية التي لا تصرح بها منظمة الصحة الأميركية، فتباع في السوق السوداء في العالم الثالث وأهمها العالم العربي. نحتاج في عالمنا العربي إلى مؤسسات تتحكم في الطب وفي بيع الأدوية، فالعقاقير دواء ولكنها سموم في الوقت ذاته. نحتاج إلى لجان مراقبة طبية تكون عينها على الصيدليات وعيادات الأطباء ومعامل الأدوية لتسد الطريق على العابثين في سوق الأدوية السوداء.

في بلداننا العربية من يرصدون الأموال للجوائز في الفن والثقافة، وهذا حسن وطيب.. على الرغم من أنها في معظمها ليست جوائز جادة، بقدر ما تبتغي أشكالا مختلفة من أشكال المظهرية. ولكن لا توجد لدينا جوائز للتحكم في جودة المنتجات، خصوصا الدوائية منها، ومدى صلاحيتها للاستخدام الآدمي، فهل اتسع مجال الجوائز عندنا ليشمل من يعملون لمنفعة البلاد والعباد، أم سنبقى سجناء المظاهر، مغيبي الضمائر؟

*نقلاً عن "الشرق الأوسط" اللندنية

0 التعليقات:

إرسال تعليق